فصل: الآية رقم ‏(‏156 ‏:‏ 158‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏149 ‏:‏ 153‏)

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ‏.‏ بل الله مولاكم وهو خير الناصرين ‏.‏ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ‏.‏ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ‏.‏ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ‏}‏

يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين‏}‏، ثم أمرهم بطاعته وموالاته والاستعانة به والتوكل عليه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بل اللّه مولاكم وهو خير الناصرين‏}‏، ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال، فقال‏:‏ ‏{‏سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين‏}‏ وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي‏:‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة‏)‏ وقال الإمام أحمد‏:‏ عن أبي موسى قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أعطيت خمساً‏:‏ بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة، وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي لمن مات لا يشرك باللّه شيئاً‏)قال ابن عباس في قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب‏}‏ قذف اللّه في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً، وقد رجع وقذف اللّه في قلبه الرعب‏)‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صدقكم اللّه وعده إذ تحسونهم بإذنه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وعدهم اللّه النصر، ‏{‏إذ تحسونهم‏}‏ أي تقتلونهم ‏{‏بإذنه‏}‏ أي بتسليطه إياكم عليهم ‏{‏حتى إذا فشلتم‏}‏ الفشل‏:‏ الجبن ‏{‏وتنازعتم في الأمر وعصيتم‏}‏ كما وقع للرماة ‏{‏من بعد ما أراكم ما تحبون‏}‏ وهو الظفر بهم ‏{‏منكم من يريد الدنيا‏}‏ وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة ‏{‏ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم‏}‏ ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏ أي غفر لكم ذلك الصنيع‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏ قال‏:‏ لم يستأصلكم ‏{‏واللّه ذو فضل على المؤمنين‏}‏‏.‏

عن ابن مسعود قال‏:‏ إن النساء كن يوم أحُد، خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر، أنه ليس منا أحد يريد الدنيا حتى أنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم‏}‏، فلما خالف أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صلى اللّه عليه وسلم في تسعة، سبعة من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم صلى اللّه عليه وسلم، فلما أرهقوه قال‏:‏ ‏(‏رحم اللّه رجلاً ردهم عنا‏)‏، قال‏:‏ فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما ارهقوه أيضاً قال‏:‏ ‏(‏رحم اللّه رجلا ردهم عنا‏)‏ فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول اللّه لصاحبيه‏:‏‏(‏ما أنصفنا أصحابنا‏)‏، فجاء أبو سفيان فقال‏:‏ اعل هبل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏قولوا اللّه أعلى وأجل‏)‏، فقالوا‏:‏ اللّه أعلى وأجل، فقال أبو سفيان‏:‏ لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏قولوا اللّه مولانا والكافرون لا مولى لهم‏)‏، فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر فيوم علينا ويوم لنا‏:‏ ويوم نُساء ويوم نُسرحنظلة بحنظلة وفلان بفلان‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا سواء‏:‏ أما قتلانا فأحياء يرزقون؛ وأما قتلاكم ففي النار يعذبون‏)‏، فقال ابو سفيان‏:‏ لقد كان في القوم مُثْلة - وإن كانت لعن غير مَليّ المليُّ بفتح الميم الهوى منّا ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، قال‏:‏ فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسو اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أكلت شيئاً‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏(‏ما كان اللّه ليدخل شيئاً من حمزة في النار‏)‏، قال‏:‏ فوضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حمزة فصلى عليه، وجيء برجل من الأنثار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة، حتى جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة، حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة ‏"‏رواه الإمام أحمد في المسند‏"‏‏.‏

وقال البخاري عن البراء قال‏:‏ لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى اللّه عليه وسلم جيشاً من الرماة وأمر عليهم عبد اللّه ابن جبير، وقال‏:‏ ‏(‏لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا‏)‏ فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن‏.‏ وقد بدل خلاخلهن فأخذوا يقولون‏:‏ الغنيمة الغنيمة، فقال عبد اللّه بن جبير‏:‏ عهد إليَّ النبي صلى اللّه عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلاً، فأشرف أبو سفيان فقال‏:‏ أفي القوم محمد، فقال‏:‏ ‏(‏لا تجيبوه‏)‏، فقال‏:‏ أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا تجيبوه‏)‏، فقال أفي القوم ابن الخطاب، فقال‏:‏ إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال له‏:‏ كذبت يا عدو اللّه، أبقى اللّه لك ما يحزنك؛ قال أبو سفيان‏:‏ اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أجيبوه‏)‏، قالوا‏:‏ ما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولوا‏:‏ اللّه أعلى وأجل‏)‏، قال أبو سفيان‏:‏ لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أجيبوه‏)‏، قالوا‏:‏ ما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولوا‏:‏ اللّه مولانا ولا مولى لكم‏)‏، قال أبو سفيان‏:‏ يوم بيوم بدر، والحرب سجال؛ وستجدون مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني‏.‏ وعن الزبير بن العوام قال‏:‏ واللّه لقد رايتني أنظر إلى خدم هند وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل، ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل فأوتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنوا منه أحد من القوم، قال محمد بن إسحاق‏:‏ فلم يزل لواء المشركين صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمى الحارثيةفدفعته لقريش فلاثوا بها ‏"‏رواه ابن أبي إسحاق‏"‏وقال السدي عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ ما كنت ارى أن أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحُد ‏{‏منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم صرفكم عنهم ليبتليكم‏}‏، قال ابن إسحاق‏:‏ انتهى أنَس بن النضر عم أنَس بن مالك إلى عمر بن الخطاب و طلحة بن عبد اللّه في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال‏:‏ ما يخليكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏ فما تصنعون بالحياة بعده‏؟‏ قوموا فموتوا على ما مات عليه؛ ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي اللّه عنه - وقال البخاري عن أنَس بن مالك أن عمه يعني أنَس بن النضرغاب عن بدر فقال‏:‏ غبت عن أول قتال النبي صلى اللّه عليه وسلم لئن أشهدني اللّه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليرينَّ اللّه ما أجد، فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال اللهم إن أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون؛ فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال‏:‏ أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم ‏"‏رواه ابن أبي إسحاق‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تصعدون ولا تلوون على أحد‏}‏ أي صرفكم عنهم إذا تصعدون أي في الجبال هاربين من أعدائكم ‏{‏ولا تلوون على أحد‏}‏ أي ‏,‏أنتم لا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب، ‏{‏والرسول يدعوكم في أخراكم‏}‏ أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة، قال السدي‏:‏ لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها، فجعل الرسول صلى اللّه عليه وسلم يدعو الناس‏:‏ ‏(‏إليّ عباد اللّه، إليّ عباد اللّه ‏)‏، فذكر اللّه صعودهم إلى الجبل ثم ذكر دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم غياهم فقال‏:‏ ‏{‏إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في آخراكم‏}‏‏.‏

عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال‏:‏ جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبد اللّه بن جبير، قال‏:‏ ووضعهم موضعاً، وقال‏:‏ ‏(‏إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، قال، فهزموهم، قال‏:‏ فلقد واللّه رأيت النساء يشتددن على جبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد اللّه ‏:‏ الغنيمة أي قوم الغنيمة‏!‏ ظهر أصحابكم فما تنظرون‏؟‏ قال عبد اللّه بن جبير‏:‏ أنسيتم ما قال لكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنا لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين‏.‏ وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة واربعين، سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً‏.‏ قال أبو سفيان‏:‏ أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، أفي القوم محمد‏؟‏ ثلاثاً - قال فنهاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال‏:‏ أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ ثم أقبل على أصحابه، فقال‏:‏ اما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم، فما ملك عمر نفسه أن قال‏:‏ كذبت واللّه يا عدو اللّه إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد أبقى اللّه لك ما يسوؤك، فقال‏:‏ يوم بيوم بدر، والحرب سجال‏.‏ إنكم ستجدون في لاقوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني‏.‏ ثم أخذ يرتجز يقول‏:‏ اعل هبل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الا تجيبوه‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولاوا اللّه أعلى وأجل‏)‏، قال‏:‏ لنا العزى ولا عزى لكم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ألا تجيبوه‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه وما نقول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولوا مولانا ولا مولى لكم‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد‏"‏

وقد روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى اللّه عليه وسلم يعني يوم أحد، وفي الصحيحين، عن أبي عثمان النهدي قال‏:‏ لم يبق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا طلحة بن عبيد اللّه وسعد عن حديثهما‏.‏ وعن سعيد بن المسيب يقول‏:‏ سمعت سعد بن أبي وقاص يقول‏:‏ نثل لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كنانته يوم أحد، وقال‏:‏ ‏(‏ارم فداك أبي وأمي‏)‏، وعن سعد بن أبي وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال سعد‏:‏ فلقد رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يناولني النبل، ويقول‏:‏ ‏(‏ارم فداك أبي وأمي‏)‏ حتى أنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به‏.‏

وثبت في الصحيحين من حديث ابراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال‏:‏ رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى اللّه عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام، وعن أنَس بن مالك‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار واثنين من قريش، فلما ارهقوه قال‏:‏ ‏(‏من يردهم عنا وله الجنة - أو هو رفيقي في الجنة - ‏)‏، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أيضاً فقال‏:‏ ‏(‏من يردهم عنا وله الجنة‏)‏، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لصاحبيه‏:‏ ‏(‏ما أنصفنا أصحابنا‏)‏ ‏"‏رواه مسلم‏.‏ وقال أبو الأسود عن عروة ابن الزبير قال‏:‏ كان أُبيّ بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما بلغت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حلفته قال‏:‏ ‏(‏بل أنا أقتله إن شاء اللّه‏)‏، فلما كان يوم أُحُد أقبل أُبيّ في الحديد مقناعاً وهو يقول‏:‏ لا نجوتُ إن نجا محمد، فحمل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد قتله، فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجه بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته فوقع إلى الأرض عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور، فقالوا له‏:‏ ما أجزعك إنما هو خدش‏؟‏ فذكر لهم قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏بل أنا أقتل أُبيَّا‏)‏، ثم قال‏:‏ والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، فمات إلى النار ‏{‏فسحقاً لأصحاب السعير‏}‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏

وذكر محمد بن إسحاق قال‏:‏ لما أسند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الشعب أدركه أُبيّ بن خلف وهو يقول‏:‏ لا نجوتُ إن نجوتَ، فقال القوم‏:‏ يا رسول اللّه يعطف عليه رجل منا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏دعوه‏)‏ فلما دنا منه تناول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فقال بعض القوم كما ذكر لي‏:‏ فلما أخذها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه انتفض بها انتقاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انفضَّ، ثم استقبله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً تدأدأ‏:‏ سقط

وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اشتد غضب اللّه على قوم فعلوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وهو حينئذ يشير إلى رباعيته - واشتد غضب اللّه على رجل يقتله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سبيل اللّه ‏)‏ وعن عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها قالت‏:‏ كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال‏:‏ ذاك يوم كله لطلحة، ثم أنشأ يحدث، قال‏:‏ كنت أول من فاء يوم أحد فرايت رجلاً يقاتل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دونه - وأراه قال حميَّة - فقلت‏:‏ كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت‏:‏ يكون رجلاً من قومي أحب إلي، وبين وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفاً لا أعرفه فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته من حلق المغفر، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏عليكما صاحبكما يريد طلحة‏)‏ وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله قال‏:‏ وذهبت لأنزع ذلك من وجهه، فقال أبو عبيدة‏:‏ أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأزمَّ عليها بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال‏:‏ أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال، ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتماً، فاصلحنا من شأن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت أصبعه، فأصلحنا من شأنه ‏"‏أخرجه أبو داود الطيالسي والطبراني‏"‏وقال ابن وهب‏:‏ إن مالكاً أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد مصَّ الجرج حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له‏:‏ مجه، فقال‏:‏ لا واللّه لا أمجه أبداً ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فاستشهد‏)‏ وقد ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ جرح وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم، فكانت فاطمة تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فاحرقتها، حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأثابكم غماً بغم‏}‏ أي فجزاكم غمًا على غم، كما تقول العرب‏:‏ نزلت ببني فلان نزلت على بني فلان، وقال ابن جرير‏:‏ وكذا قوله‏:‏ ‏{‏ولأصلبنكم في جذوع النخل‏}‏ أي على جذوع النخل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الغم الأول بسبب الهزيمة وحين قيل قتل محمد صلى اللّه عليه وسلم، والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏اللهم ليس لهم أن يعلونا‏)‏، وعن عبد الرحمن بن عوف‏:‏ الغم الأول بسبب الهزيمة، والثاني حين قيل‏:‏ قُتل محمد صلى اللّه عليه وسلم كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة‏.‏ وقال السدي‏:‏ الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والثاني بإشراف العدو عليهم‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ‏{‏فأثابكم غمًا بغم‏}‏ أي كرباً بعد كرب من قتل من قتل من إخوانكم، وعلو عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قتل نبيكم، فكان ذلك متتابعاً عليك غماً بغم‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ الغم الأول سماعهم قتل محمد،، والثاني ما أصابهم من القتل والجراح‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكيلا تحزنوا على ما فاتكم‏}‏ أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم ‏{‏ولا ما أصابكم‏}‏ من الجراح والقتل قاله ابن عباس والسدي ‏{‏واللّه خيبر بما تعملون‏}‏ سبحانه وبحمده، لا إله إلا هو جل وعلا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏154 ‏:‏ 155‏)‏

‏{‏ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ‏.‏ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ‏}‏

يمتن اللّه تعالى على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان‏.‏ كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر‏:‏ ‏{‏إذ يغشيكم النعاس أمنة منه‏}‏ الآية، وقال ابن أبي حاتم، عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ النعاس في القتال من اللّه، وفي الصلاة من الشيطان وقال البخاري، عن أبي طلحة قال‏:‏ كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مراراً يسقط وآخذه ويسقط وآخذه‏.‏ وعن أنَس بن مالك، أن أبا طلحة قال‏:‏ غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، قال‏:‏ والطائفة الآخرى المنافقون ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق ‏"‏أخرجه البهيقي‏"‏‏{‏يظنون باللّه غير الحق ظن الجاهلية‏}‏ أي إنما هم أهل شك وريب في اللّه عز وجلّ، فإن اللّه عزّ وجلّ يقول‏:‏ ‏{‏ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم‏}‏ يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن اللّه عزّ وجلّ سينصر رسوله ينجز له مأموله، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وطائفة قد أهمتهم أنفسهم‏}‏ يعني لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف ‏{‏يظنون باللّه غير الحق ظن الجاهلية‏}‏ كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً‏}‏ وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما أظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وان الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم ‏{‏يقولون‏}‏ في تلك الحال ‏{‏هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الأمر كله للّه يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك‏}‏، ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله‏:‏ ‏{‏يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا‏}‏، أي يسرون هذه المقالة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال ابن إسحاق، عن عبد اللّه بن الزبير قال‏:‏ قال الزبير‏:‏ لقد رأيتني مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل اللّه علينا النوم، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال‏:‏ فوالله إني لأسمع قول متعب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول‏:‏ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا، فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله‏:‏ يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنالقول معتب ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم‏}‏ أي هذا قدر قدره اللّه عزّ وجلّ وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليبتلي اللّه ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم‏}‏ أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال، ‏{‏والله عليم بذات الصدور‏}‏ أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا‏}‏ أي ببعض ذنوبهم السالفة، كما قال بعض السلف‏:‏ إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد عفا اللّه عنهم‏}‏ أي عما كان منهم من الفرار، ‏{‏إن اللّه غفور حليم‏}‏ أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏156 ‏:‏ 158‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ‏.‏ ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ‏.‏ ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ‏}‏

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة المؤمنين مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب‏:‏ لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم‏}‏ أي عن إخوانهم، ‏{‏إذا ضربوا في الأرض‏}‏ أي سافروا للتجارة ونحوها، ‏{‏أو كانوا غزَّى‏}‏ أي كانوا في الغزو، ‏{‏لو كانوا عندنا‏}‏ أي في البلد، ‏{‏ما ماتوا وما قتلوا‏}‏ أي ما ماتوا في السفر وما قتلوا في الغزو‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليجعل اللّه ذلك حسرة في قلوبهم‏}‏ أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم، ثم قال تعالى رداً عليهم‏:‏ ‏{‏واللّه يحيي ويميت‏}‏ أي بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقَدَره، ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره، ‏{‏واللّه بما تعملون بصير‏}‏ أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن قتلتم في سبيل اللّه أو متم لمغفرة من اللّه ورحمة خير مما يجمعون‏}‏ تضمن هذا أن القتل في سبيل اللّه والموت أيضاً وسيلة إلى نيل رحمة اللّه وعفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني، ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى اللّه عزّ وجلّ فيجزيه بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن متم أو قتلتم لإلى اللّه تحشرون‏}‏

 الآية رقم ‏(‏159 ‏:‏ 164‏)‏

‏{‏ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ‏.‏ إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون ‏.‏ وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ‏.‏أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ‏.‏ هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون ‏.‏ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ‏}‏

يقول تعالى مخاطباً رسوله ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما أَلان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره وأطاب لهم لفظه ‏{‏فبما رحمة من اللّه لنت لهم‏}‏ أي بأي شيء جعلك اللّه لهم ليناً لولا رحمة اللّه بك وبهم، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏فبما رحمة من اللّه لنت لهم‏}‏ يقول‏:‏ فبرحمة من اللّه لنت لهم و ما صلة، والعرب تصلها بالمعرفة كقوله ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏، وبالنكرة كقوله‏:‏ ‏{‏عما قليل‏}‏ وهكذا ههنا‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏فبما رحمة من اللّه لنت لهم‏}‏ أي برحمة من اللّه، وقال الحسن البصري‏:‏ هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه اللّه به، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى‏:‏ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك‏}‏ والفظ‏:‏ الغليظ والمراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏غليظ القلب‏}‏ أي لو كنت سيء الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن اللّه جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقولبهم، كما قال عبد اللّه بن عمرو‏:‏ إني أرى صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الكتب المتقدمة ‏(‏أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح‏)‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر‏}‏ ولذلك كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييباً لقلوبهم، ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه، كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى‏:‏ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول‏:‏ اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون‏.‏ وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل، حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم، وشاروهم في أُحُد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدوّ، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم، وشاروهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ فأبى ذلك عليه السعدان، سعد ابن معذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له الصديق‏:‏ إنا لمن نجيء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال، فكان صلى اللّه عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها‏.‏

وروينا عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشاورهم في الأمر‏}‏ قال‏:‏ نزلت في أبي بكر وعمر، وكانا حواري رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ووزيريه وأبوي المسلمين، وقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر‏:‏ ‏(‏لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما‏)‏، وروى ابن مردويه، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن العزم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم‏)‏، وقد قال ابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المستشار مؤتمن‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكل على اللّه‏}‏، أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على اللّه فيه ‏{‏إن اللّه يحب المتوكلين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون‏}‏ وهذه الآية كما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏وما النصر إلا من عند اللّه العزيز الحكيم‏}‏، ثم أمرهم بالتوكل عليه فقال‏:‏ ‏{‏وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لنبي أن يغل‏}‏، قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ ما ينبغي لنبي أن يخون، وقال ابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏:‏ فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا‏:‏ لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذها فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وما كان لنبي أن يغلّ‏}‏ أي يخون‏.‏ وقال ابن جرير، عن ابن عباسن أن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وما كان لنبي أن يغل‏}‏ نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس‏:‏ لعل رسول اللّه أخذها، فأكثروا في ذلك، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة‏}‏، وعنه قال‏:‏ إتهم المنافقون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشيء فُقد، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لنبي أن يغل‏}‏ وهذا تنزيه له صلوات اللّه وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك ‏{‏ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وقد وردت السنّة بالنهي عن ذلك أيضاً في أحاديث متعددة‏.‏ قال الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أعظم الغلول عند اللّه ذراع في الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض - أو في الدار - فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً فإذا قطعه طوقه من سبع أرضين يوم القيامة‏)‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن جبير قال‏:‏ سمعت المستورد بن شداد يقول، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادماً، أو ليس له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال‏)

حديث آخر‏:‏ قال ابن جرير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال، قال رسول اللّه صلى للّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي‏:‏ يا محمد يا محمد‏!‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك من اللّه شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء يقول‏:‏ يا محمد يا محمد‏؟‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك من اللّه شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي‏:‏ يا محمد يا محمد‏!‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك من اللّه شيئا قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قسماً من أدم ينادي‏:‏ يا محمد يا محمد‏!‏ فأقول‏:‏ لا أملك لك من اللّه شيئاً قد بلغتك‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير، قال ابن كثير‏:‏ لم يروه أحد من أهل الكتب الستة‏"‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ استعمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال‏:‏ هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المنبر، فقال‏:‏ ‏(‏ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول‏:‏ هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا‏؟‏ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، وإن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر‏؟‏‏؟‏‏)‏، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال‏:‏ ‏(‏اللهم هل بلغت‏)‏‏؟‏ ثلاثاً

حديث آخر‏:‏ قال أبو عيسى الترمذي، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في أثري فرددت، فقال‏:‏ ‏(‏أتدري لم بعثت إليك‏؟‏ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول‏:‏ ‏{‏ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة‏}‏ لهذا دعوتك فامض لعملك‏)‏ ‏"‏قال الترمذي‏:‏ حديث حسن غريب‏"‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال‏:‏ قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال‏:‏ ‏(‏لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول‏:‏ يا رسول اللّه أغثني، فأقول‏:‏ لا أملك لك من اللّه شيئاً قد بلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول‏:‏ يا رسول اللّه أغثني، فأقول‏:‏ لا أملك لك من اللّه شيئاً قد بلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول‏:‏ يا رسول اللّه أغثني، فأقول‏:‏ لا أملك لك من اللّه شيئاً قد بلغتك‏)‏ أخرجه الشيخان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن اتبع رضوان اللّه كمن باء بسخط من اللّه ومأواه جهنم وبئس المصير‏}‏ أي لا يستوي من اتبع رضوان اللّه فيما شرعه فاستحق رضوان اللّه وجزيل ثوابه، ومن استحق غضب اللّه وألزمه به فلا محيد له عنه ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير، وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا‏}‏ الآية‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏هم درجات عند اللّه‏}‏ قال الحسن البصري‏:‏ يعني أهل الخير وأهل الشر درجات، وقال أبو عبيدة والكسائي‏:‏ منازل، يعني متفاوتون في منازلهم، درجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل درجات مما عملوا‏}‏ الآية، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه بصير بما يعملون‏}‏، أي وسيوفيهم إياها، لا يظلمهم خيراً ولا يزيدهم شراً، بل يجازي كل عامل بعمله‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم‏}‏ أي من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم‏}‏‏؟‏ فهذا أبلغ في الإمتنان أن يكون الرسول إليهم منهم، بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يتلو عليهم آياته‏}‏ يعني القرآن ‏{‏ويزكيهم‏}‏ أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكوا نفوسهم، وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم، ‏{‏ويعلمهم الكتاب والحكمة‏}‏ يعني القرآن والسنّة، ‏{‏وإن كانوا من قبل‏}‏ أي من قبل هذا الرسول، ‏{‏لفي ضلال مبين‏}‏ أي لفي غي وجهل ظاهر جلي بيِّن لكل أحد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏165 ‏:‏ 168‏)‏

‏{‏ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ‏.‏ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ‏.‏ وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ‏.‏ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أولما أصابتكم مصيبة‏}‏ وهي ما أصيب منهم يوم أحُد من قتلى السبعين منهم، ‏{‏قد أصبتم مثليها‏}‏ يعني يوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلاً، واسروا سبعين أسيراً ‏{‏قلتم أنى هذا‏}‏ أي من أين جرى علينا هذا‏؟‏ ‏{‏قل هو من عند أنفسكم‏}‏ عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنه وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل اللّه ‏{‏أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم‏}‏ يأخذكم الفداء ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏وهكذا قال الحسن البصري وقوله ‏{‏قل هو من عند أنفسكم‏}‏ أي بسبب عصيانكم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة، ‏{‏إن اللّه على كل شيء قدير‏}‏ أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن اللّه‏}‏ أي فراركم بين يدي عدوكم، وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين، كان بقضاء اللّه وقدره، وله الحكمة في ذلك، ‏{‏وليعلم المؤمنين‏}‏ أي الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا، ‏{‏وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل اللّه أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم‏}‏ يعني بذلك أصحاب عبد اللّه بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في أثناء الطريق فاتبعهم رجال من المؤمنين يحرضونهم على الإتيان والقتال والمساعدة ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أو ادفعوا‏}‏، قال ابن عباس وعكرمة‏:‏ يعني كثروا سواد المسلمين، وقال الحسن‏:‏ ادفعوا بالدعاء،

وقال غيره‏:‏ رابطوا، فتعللوا قائلين‏:‏ ‏{‏لو نعمل قتالاً لاتبعناكم‏}‏، قال مجاهد‏:‏ يعنون لو نعلم أنكم تلقون حرباً لجئناكم، ولكن لا تلقون قتالاً‏.‏ وقد روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى اُحد في الف رجل من أصحابه؛ حتى إذا كان بالشوط بين أُحد والمدينة انحاز عنه عبد اللّه بن أبي ابن سلول بثلث الناس فقال‏:‏ أطاعهم فخرج وعصاني، والله ما ندري علام نقتل انفسنا ههنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد اللّه بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول‏:‏ يا قوم أذكِّركم اللّه أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم، قالوا‏:‏ لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكن لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الإنصراف عنهم قال‏:‏ أبعدكم اللّه أعداء اللّه فسيغني اللّه عنكم، ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏ذكره ابن إسحاق عن الزهري‏"‏، قال اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان‏}‏، استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان لقوله‏:‏ ‏{‏هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان‏}‏‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏}‏ يعني أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته، ومنه قولهم هذا‏:‏ ‏{‏لو نعلم قتالاً لاتبعناكم‏}‏ فإنهم يتحققون أن جنداً من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسبب ما اصيب من أشرافهم يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين، وأنه كائن بينهم قتال لا محالة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه أعلم بما يكتمون‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا‏}‏ أي لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين‏}‏ أي إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين، قال مجاهد‏:‏ نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبي ابن سلول وأصحابه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏169 ‏:‏ 175‏)‏

‏{‏ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ‏.‏ فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ‏.‏ يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ‏.‏ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ‏.‏ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ‏.‏ فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ‏.‏ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ‏}‏

يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم، وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار، روى ابن جرير بسنده عن أنَس بن مالك في قصة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين أرسلهم نبي اللّه إلى أهل بئر بعونة قال‏:‏ لا أدري أربعين أو سبعين، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أتو غاراً مشرفاً على الماء فقعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض‏:‏ أيكم يبلغ رسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل هذا الماء‏؟‏ فقال - اراه أبو ملحان الأنصاري - أنا أبلغ رسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فخرج حتى أتى حول بيتهم فاجتثى أمام البيوت ثم قال‏:‏ يا أهل بئر معونة إني رسول رسول اللّه إليكم، إني اشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله فآمنوا باللّه ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال‏:‏ اللّه أكبر فزت ورب الكعبة، فاتبعوا أثره حتى أتو أصحابه في الغار فقتلهم أجميعن عامر بن الطفيل‏.‏

وقال ابن اسحق‏:‏ حدثني أنس بن مالك أن اللّه أنزل فيهم قرآناً، بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زماناً وأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ وقد قال مسلم في صحيحه، عن مسروق قال‏:‏ سألنا عبد اللّه عن هذه الآية‏:‏

‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ فقال‏:‏ أما إنا قد سالنا عن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربهم إطلاعة فقال‏:‏ هل تشتهون شيئاً‏؟‏ فقالوا‏:‏ أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا‏؟‏ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا‏:‏ يا رب نريد أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا‏)‏

حديث آخر‏:‏عن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من نفس تموت لها عند اللّه خير، يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأخرجه مسلم‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ عن جابر قال، قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أعلمت أن اللّه أحيا أباك فقال له‏:‏ تمنَّ، فقال له‏:‏ أردُّ إلى الدنيا فأقتل فيك مرة اخرى، قال‏:‏ إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون‏)‏ ‏"‏رواه أحمد عن جبار بن عبد اللّه ‏"‏وقال البخاري، عن ابن المنكدر، سمعت جابراً قال‏:‏ لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينهوني والنبي صلى اللّه عليه وسلم لم ينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تبكيه - أو ما تبكيه - ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري ومسلم والنسائي‏"‏

حديث آخر‏:‏ عن ابن عباس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لما أصيب إخوانكم يوم أُحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا‏:‏ يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال اللّه عزّ وجلّ‏:‏ أنا أبلغهم عنكم، فأنزل اللّه هذه الآيات‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ وما بعدها‏)

حديث آخر‏:‏ عن طلحة بن خراش الأنصاري قال‏:‏ سمعت جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ نظر إليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم فقال‏:‏ ‏(‏يا جابر مالي اراك مهتماً‏؟‏‏)‏ قلت يا رسول اللّه استشهد ابي وترك ديناً عليه، قال، فقال‏:‏ ‏(‏ألا أخبرك ما كلم اللّه أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم اباك كفاحاً‏)‏، قال علي‏:‏ والكفاح المواجهة‏؟‏ ‏(‏قال سلني أعطك قال‏:‏ اسالك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عزّ وجلّ إنه قد سبق مني القول أنهم إليها لا يرجعون، قال‏:‏ أي رب فأبلغ من ورائي فأنزل اللّه ‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن مردويه ورواه البهيقي في دلائل النبوة‏"‏الآية‏)‏

وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضاً فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد اللّه لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة فإن الإمام أحمد رحمه اللّه رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه اللّه، عن مالك بن أنَس الاصبحي رحمه اللّه، عن الزهري عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه‏)‏ ‏"‏أخرج الإمام أحمد في المسند‏"‏قوله‏:‏ ‏(‏يعلق‏)‏ أي يأكل وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة‏(‏ وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر فهي كالكواكب بالنسبة إلى ارواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها، فنسأل اللّه الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فرحين بما آتاهم اللّه‏}‏ إلىآخر الآية‏:‏ أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل اللّه أحياء عند ربهم، وهم فرحون بماهم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل اللّه أنهم يقدمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم، نسأل اللّه الجنة‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ‏{‏ويستبشرون‏}‏ أي ويسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب اللّه الذي أعطاهم‏.‏ قال السدي‏:‏ يؤتى الشهيد بكتاب فيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا‏:‏ يا ليت أخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فاخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بامرهم وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم - أي ربهم - أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه فاستبشرا بذلك، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم‏}‏ الآية‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن أنَس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة، وقنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوا على الذين قتلوهم ويلعنهم‏.‏ قال أنَس‏:‏ ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع‏:‏ ‏(‏أن بلِّغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا‏)‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يستبشرون بنعمة من اللّه وفضل وأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين‏}‏ قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم، وقلما ذكر اللّه فضلاً ذكر به الأنبياء وثواباً أعطاهم اللّه إياه إلا ذكر اللّه ما أعطى المؤمنين من بعدهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح‏}‏ هذا كان يوم حمراء الاسد وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لا تمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة، فلما بلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذاهب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلداً، ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه لما سنذكره، فانتذب المسلمون على ما بهم ما الجراح والإثخان طاعة للّه عزّ وجلّ ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏ وعن عكرمة أنه‏:‏ لما رجع المشركون عن أحد قالوا‏:‏ لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا فسمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد فقال المشركون‏:‏ نرجع من قابل، فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكانت تعد غزوة فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم‏}‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان‏:‏ أن رجلاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان قد شهد أُحداً، قال‏:‏ شهدنا أُحداً مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنا وأخي ورجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي‏:‏ أتفوتنا غزوة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكنت أيسر جراحاً منه؛ فكان إذا غلب حملته عقبة؛ حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون‏.‏ وقال البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا للّه والرسول‏}‏ الآية، قلت لعروة‏:‏ يا ابن أختي كان أبوك منهم الزبير و أبو بكر رضي اللّه عنهما لما أصاب نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال‏:‏ ‏(‏من يرجع في أثرهم‏)‏، فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير‏.‏ وروي عن عروة قال، قالت لي عائشة إن أباك من الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح‏.‏ وكانت وقعة أُحُد في شوّال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح واشتكوا ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم واشتد عليهم الذي اصابهم، وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال‏:‏ ‏(‏إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتىعام مقبل‏)‏، فجاء الشيطان يخوف أولياءه فقال‏:‏ ‏{‏إن الناس قد جمعوا لكم‏}‏ وقال الحسن البصري في قوله‏:‏ الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح‏}‏ إن أبا سفيان واصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف اللّه في قلبه الرعب، فمن ينتدب في طلبه‏(‏، فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم وابو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتبعوهم فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم يطلبه فلقي عيراً من التجار فقال‏:‏ ردوا محمداً ولكم من الجعل كذا وكذا، وأخبروهم أني قد جمعت جموعاً وأني راجع إليهم، فجاء التجار فأخبروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏حسبنا اللّه ونعم الوكيل‏)‏ فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً‏}‏ الآية، أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما أكترثوا لذلك، بل توكلوا على اللّه واستعانوا به، ‏{‏وقالوا حسبنا اللّه نعم الوكيل‏}‏، وقال البخاري، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏حسبنا اللّه ونعم الوكيل‏}‏ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى اللّه عليه وسلم حين قال لهم الناس ‏{‏إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً، وقالوا‏:‏ حسبنا اللّه ونعم الوكيل‏}‏ وفي رواية له‏:‏ كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في الناس‏:‏ ‏{‏حسبنا اللّه ونعم الوكيل‏}‏ وعن أبي رافع أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وجه علياً في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال‏:‏ إن القوم قد جمعوا لكم فقالوا‏:‏ حسبنا اللّه ونعم الوكيل فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا‏:‏ حسبنا اللّه ونعم الوكيل‏)‏ ‏"‏رواه ابن مردويه وقالك حديث غريب من هذا الوجه‏"‏وقد قال الإمام أحمد، عن عوف ابن مالك أنه حدثهم، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر‏:‏ حسبيَ اللّه ونعم الوكيل، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ردوا عليّ الرجل‏)‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما قلت‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ قلت حسبي اللّه ونعم الوكيل‏(‏، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن اللّه يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل‏:‏ حسبي اللّه ونعم الوكيل‏)‏

‏{‏ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء‏}‏ أي لما توكلوا على اللّه كفاهم ما أهمهم، ورد عنهم بأس ما اراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم‏:‏ ‏{‏بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء‏}‏ مما أضمر لهم عدوهم، ‏{‏واتبعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضل عظيم‏}‏‏.‏ عن ابن عباس في قوله اللّه ‏:‏ فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل‏}‏، قال النعمة أنهم سلموا، و الفضل أن عيراً مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه ‏"‏رواه البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس‏"‏وقال مجاهد في قوله اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم‏}‏ قال هذا أبو سفيان قال لمحمد صلى اللّه عليه وسلم موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فقال محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏عسى‏)‏، فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لموعده حتى نزل بدراً فوافقوا السوق فيها فابتاعوا، فذلك اللّه عزّ وجل‏:‏ ‏{‏فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء‏}‏ الآية، قال‏:‏ هي غزوة بدر الصغرى ‏"‏أخرجه ابن جرير عن مجاهد‏.‏‏"‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه‏}‏ أي يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين‏}‏ إذا سوَّل لكم وأوهمكم فتوكلوا عليّ والجأوا إليَّ فإني كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أليس اللّه بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون‏}‏، وقال‏:‏ كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللّه قوي عزيز‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولينصرن اللّه من ينصره‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا اللّه بنصركم‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏}‏ والآيات في ذلك كثيرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏176 ‏:‏ 180‏)

‏{‏ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم ‏.‏ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ‏.‏ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ‏.‏ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ‏.‏ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير ‏}‏

يقول تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏ وذلك من شدة حرصه على الناس، كان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق، فقال تعالى‏:‏ ولا يحزنك ذلك ‏{‏إنهم لن يضروا اللّه شيئاً يريد اللّه أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة‏}‏ أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة ‏{‏ولهم عذاب عظيم‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى مخبراً عن ذلك إخبارً مقرراً‏:‏ ‏{‏إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان‏}‏ أي استبدلوا هذا بهذا، ‏{‏لن يضروا اللّه شيئاً‏}‏ أي ولكن يضرون أنفسهم ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين‏}‏، كقوله‏:‏ ‏{‏أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب‏}‏ أي لا بد أن يعقد شيئاً من المحنة، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوّه، يعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن اللّه به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم للّه ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم، وهتك به ستار المنافقين، فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد، وخيانتهم للّه ولرسوله صلى اللّه عليه وسلم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يميز الخبيث من الطيب‏}‏، قال مجاهد‏:‏ ميز بينهم يوم أحد، وقال قتادة‏:‏ ميز بينهم بالجهاد والهجرة، وقال السدي‏:‏ قالوا‏:‏ إن كان محمد صادقاً فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر به فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب‏}‏ أي حتى يخرج المؤمن من الكافر روى ذلك ابن جرير‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب‏}‏ أي أنتم لا تعلمون غيب اللّه في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن اللّه يجتبي من رسله من يشاء‏}‏‏.‏

كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً* إلا من ارتضى من رسول‏}‏ الآية‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنوا باللّه ورسله‏}‏ أي أطيعوا اللّه ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم، ‏{‏وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لهم، بل هو شر لهم‏}‏ أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه، ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال‏:‏ ‏{‏سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة‏}‏، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من آتاه اللّه مالاً فلم يؤد زكاته مثّل له شجاعاً شُجاعاً وشِجاعاً‏:‏ نوع من الحيات أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - ثم يقول أنا مالك، أنا كنزك‏)‏، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم‏}‏ ‏"‏أخرجه البخاري عن أبي هريرة‏"‏إلى آخر الآية‏.‏

حديث آخر‏:‏ عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏)‏إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان ثم يلزمه يطوقه يقول‏.‏ أنا مالك، أنا كنزك‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والنسائي‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه فيتبعه فيقول‏:‏ أنا كنزك‏)‏، ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب اللّه ‏:‏ ‏{‏سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة‏}‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة‏"‏‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها، رواه ابن جرير، والصحيح الأول وإن دخل هذا في معناه، وقد يقال‏:‏ إن هذا أولى بالدخول واللّه سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه ميراث السموات والأرض‏}‏ أي ‏{‏فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه‏}‏، فإن الأمور كلها مرجعها إلى اللّه عزّ وجلّ‏.‏ فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم ‏{‏واللّه بما تعملون خبير‏}‏ أي بيناتكم وضمائركم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏181 ‏:‏ 184‏)

‏{‏ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ‏.‏ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ‏.‏ الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ‏.‏ فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيره‏}‏، قالت اليهود‏:‏ يا محمد‏!‏ افتقر ربك فسأل عباده القرض‏؟‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنياء‏}‏ الآية‏؟‏ وقال محمد بن إسحاق، عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس قال‏:‏ دخل أبو بكر الصدّيق بيت المدراس المدراس‏:‏ المعلم المدرس فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له أشيع، فقال له أبو بكر‏:‏ ويحك يا فنحاص اتق اللّه وأسلم فواللّه إنك لتعلم أن محمدأً رسول من عند اللّه قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل‏.‏ فقال فنحاص‏:‏ واللّه يا أبا بكر ما بنا إلى اللّه من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر رضي اللّه عنه فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال‏:‏ والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو اللّه فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين، فذهب فنحاص إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏وما حملك على ما صنعت يا أبا بكر‏؟‏‏(‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه إن عدو اللّه قال قولاً عظيماً، يزعم أن اللّه فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت للّه مما قال فضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك وقال‏:‏ ما قلت ذلك، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنياء‏}‏ الآية ‏"‏رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏"‏وقوله ‏{‏سنكتب ما قالوا‏}‏ تهديد ووعيد، ولهذا قرنه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وقتلهم الأنبياء بغير حق‏}‏ أي هذا قولهم في اللّه، وهذه معاملتهم رسل اللّه، وسيجزيهم اللّه على ذلك شر الجزاء، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونقول ذوقوا عذاب الحريق* ذلك بما قدمت أيديكم وأن اللّه ليس بظلام للعبيد‏}‏ أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قالوا إن اللّه عهد إلينا أن لا يؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار‏}‏، يقول تعالى تكذيباً لهؤلاء الذين زعموا أن اللّه عهد إليهم في كتبهم، أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فتقبلت منه أن تنزل نار من السماء تأكلها، قالها ابن عباس والحسن وغيرهما، قال اللّه عزّ وجل‏:‏ ‏{‏قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات‏}‏ أي بالحجج والبراهين، ‏{‏وبالذي قلتم‏}‏ أي وبنار تأكل القرابين المتقبلة، ‏{‏قلم قتلتموهم‏}‏‏؟‏ أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم، ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل، ثم قال تعالى مسلياً لنبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير‏}‏ أي لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك، فلك أسوة بمن قبلك من الرسل، الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات، وهي الحجج والبراهين القاطعة ‏{‏والزبر‏}‏ وهي الكتب المتلقاة من السماء كالصحف المنزلة على المرسلين ‏{‏والكتاب المنير‏}‏ أي والواضح الجلي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏185 ‏:‏ 186‏)

‏{‏ كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ‏.‏ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ‏}‏

يخبر تعالى إخباراً عاماً يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل من عليها فان‏.‏ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏، فهو تعالى وحده الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخراً كما كان أولاً، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر اللّه وجودها من صلب آدم وانتهت البرية، أقام اللّه القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها‏.‏ فلا يظلم أحداً مثقال ذرة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنما توفون أجوركم يوم القيامة‏}‏، وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال‏:‏ لما توفي النبي صلى اللّه عليه وسلم وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه، فقال‏:‏ السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته ‏{‏كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة‏}‏ أي في اللّه عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، دركاً من كل فائت، فباللّه ثقوا وإياه فارجو، فإن المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، قال جعفر بن محمد‏:‏ فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال‏:‏ أتدرون من هذا‏؟‏ هذا الخضر عليه السلام، وقوله‏:‏ ‏{‏فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏}‏ أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز‏.‏ وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم وأصله في الصحيحين‏"‏‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏}‏ تصغير لشأن الدنيا، وتحقير لأمرها، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها، وما عند اللّه خير وأبقى‏}‏ وفي الحديث‏:‏‏(‏ واللّه ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع إليه‏)‏ وقال قتادة‏:‏ هي متاع متروكة أوشكت - واللّه الذي لا إله إلا هو - أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة اللّه إن استطعتم ولا قوة إلا اللّه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتبلون في أموالكم وأنفسكم‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنبلونك بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات‏}‏ إلى آخر الآيتين، أي لا بد أن يبتلي المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلي المؤمن على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء ‏{‏ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً‏}‏ يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر، مسلياً لهم عما ينالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين، وآمراً لهم بالصفح والعفو حتى يفرج اللّه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏ قال ابن أبي حاتم، عن أسامة بن زيد‏:‏ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم اللّه، ويصبرون على الأذى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا‏}‏ قال‏:‏ وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره اللّه به حتى أذن اللّه فيهم‏.‏

وعن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد حدثه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية فطيفة فَدَكية‏:‏ كساء غليظ منسوب إلى فَدَك بلد على مرحلتين من المدينة وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، حتى مر على مجلس فيه عبد اللّه بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم ابن أبي، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، وأهل الكتاب واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد اللّه بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمّر عبد اللّه بن أُبي أنفه بردائه وقال‏:‏ لا تغبروا علينا، فسلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم وقف، فنزل ودعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد اللّه بن أُبي‏:‏ أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد اللّه بن رواحة رضي اللّه عنه‏:‏ بلى يا رسول اللّه فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي صلى اللّه عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب‏؟‏‏)‏ يريد عبد اللّه بن أُبي، قال كذا وكذا، فقال سعد‏:‏ يا رسول اللّه اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك اللّه بالحق الذي نزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما أبى اللّه ذلك بالحق الذي أعطاك اللّه شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏رواه البخاري‏"‏‏.‏

وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم اللّه ويصبرون على الأذى قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ود كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد إيمانكم كفاراً، حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي اللّه بأمره‏}‏ الآية‏.‏ وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره اللّه به حتى أذن اللّه له فيهم، فلما غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدراً فقتل اللّه به صناديد كفار قريش، قال عبد اللّه بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان‏:‏ هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول على الإسلام، فبايعوا وأسلموا، فكل من قام بحق أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في اللّه، والاستعانة باللّه والرجوع إلى اللّه‏.‏